Tuesday, November 12, 2019

تعرف على المدينة التي دشنت طباعة الكتب في العالم

تمثل ورشة "أنتيكا ستامبريا أرمينا" في مدينة البندقية الإيطالية، أحد أحلام حياة باولو أولبي، الذي يعمل في مجال تجليد الكتب وصنع الورق.

فلهذه الورشة التقليدية، الكائنة في قصر يعود للقرن الثامن عشر وتمتلكه الآن جمعية "الآباء المخيتاريين" التابعة لطائفة الأرمن الكاثوليك، هدف طموح. إذ يأمل أولبي أن يعيد من خلالها إلى البندقية مجدها الغابر في مجال الطباعة، بفضل ما تحتوي عليه الورشة - التي يعني اسمها حرفيا "المطبعة الأرمنية القديمة" - من مكابس للطباعة وغرفة للتجليد، ومساحة مخصصة لتدريب جيل جديد من العاملين في هذا المجال.

فعلى الرغم من أنه يُشار إلى ألمانيا غالبا على أنها مهد الطباعة في العالم، في ضوء أن يوهان غوتنبرغ اخترع هناك أسلوب الطباعة بالحروف المتحركة في منتصف القرن الخامس عشر؛ فإن جمهورية البندقية كانت صاحبة الفضل في إعطاء هذه الصناعة الدفعة الأكبر.

وتقول فيديريكا بينيديتي، التي تعمل في إحدى أقدم المكتبات العامة بإيطاليا، إن سمات وخصائص البندقية أدت إلى حدوث "تطور استثنائي" في هذا المجال، منذ أن وصل إلى تلك البقعة من العالم في عام 1469.

وأوضحت أن هذه المدينة الساحلية كانت تشكل "القوة البحرية الرئيسية في البحر المتوسط، باعتبار أنها مثلت مركز شبكة كثيفة للعلاقات التجارية مع القوى الأوروبية وغير الأوروبية الكبرى. وجلب إليها التجار والصنّاع المهرة رؤوس الأموال والابتكارات التكنولوجية".

وفي ظل توافر المواد الخام وظروف التبادل التجاري المواتية؛ تمتعت البندقية بوضع مثالي فيما يتعلق بقدرتها على تلبية حجم الطلب المرتفع على المواد المطبوعة، سواء من باقي أنحاء أوروبا أو من مناطق أخرى في العالم.

لكن هيمنة المدينة على حركة التجارة في ذلك الوقت، لم تكن العامل الوحيد الذي أدى لازدهار صناعة الطباعة فيها. فحسبما تقول بينيديتي كان "عالم التبادل التجاري والصنّاع المهرة في البندقية يتسمان بطابع حيوي للغاية ومنفتح بشدة على الإبداعات الجديدة".

فقد كانت "سارانسيما" - كما عُرِفَتْ جمهورية البندقية في ذلك الوقت - مدينة ذات طابع عالمي، بل وإحدى أغنى مدن أوروبا حينذاك. وشكلت أيضا بقعة بلغت من الأهمية والنفوذ قدرا، جعلها تستعصي على الخضوع لنفوذ أو رقابة روما والكنيسة الكاثوليكية في أغلب الأحيان. بجانب هذا وذاك، وفرت البندقية تربة خصبة لإحداث قفزة في الصناعة التي دُشِنَت بفعل اختراع غوتنبرغ.

ويقول أولبي: "جاء العاملون في مجال الطباعة إلى هنا، لأننا كنا ننعم بحرية الصحافة. فالبندقية كانت جمهورية وليست `سينيورية`"، وهو الاسم الذي كان يُطلق على حكومات مٌعلنة بحكم الأمر الواقع في مدن إيطالية خلال القرون الوسطى وعصر النهضة، وكانت تخضع لسلطة سيد إقطاعي.

ومن بين الشخصيات التي عملت في هذا المجال؛ ألدوس مانوتسيوس، عالم الإنسانيات والباحث في كلاسيكيات الأدب الإغريقي واللاتيني. وُلِدَ هذا الرجل في بلدة غير بعيدة عن روما، وانتقل للعيش في البندقية عام 1490. ومثله مثل الباحثين والفنانين والمثقفين الآخرين، اجتذبته الحرية النسبية التي كانت تسود هذه المدينة، وألهمته مقومات النهضة الفكرية المتوافرة فيها، بعيدا عن القبضة الصارمة للكنيسة.

هناك أنشأ دارا للطباعة، طبع فيها خلال عام 1495 باكورة كتبه، الذي أعقبه عدد من النصوص الأخرى. جاء ذلك حسبما قالت بينيديتي، في إطار مشروع طموح تبناه مانوتسيوس لطبع كتب تعليمية تهدف لنشر كلاسيكيات الثقافة الإغريقية واللاتينية، وحمايتها كذلك.

وفضلا عما تمتع به من ثقافة، كان ألدوس مانوتسيوس صاحب رؤية مختلفة كذلك، إذ أصبح رائدا في طباعة كتبه الكلاسيكية بحجم صغير يسهل حمله. وكانت هذه الكتب - الأشبه بكتب الجيب المعروفة حاليا - تُباع بأسعار في المتناول.

ويصف أولبي مانوتسيوس بأنه "كان رجلا رائدا للغاية. ورغم أن ما فعله يبدو لنا الآن بلا قيمة، فإنه شكلّ تطورا كبيرا بالنسبة للحقبة التي كانت تُستخدم فيها، كتب ضخمة للغاية وثقيلة بشدة".

ومثّل تغيير التفاصيل الجمالية للطباعة، إنجازا آخر لهذا الرجل. فبينما واصل غالبية رفاقه في مجال طبع الكتب ونشرها، استخدام النمط التقليدي للحروف المطبوعة، الذي ابتكره غوتنبرغ، استحدثت دار النشر التي أسسها ألدوس مانوتسيوس وحملت اسم "أولداين"، نمطا آخر نُسِبَ إليها وأُطْلِقَ عليه اسم "أولداينو" تُكتب فيه الحروف بشكل مائل.

ويعود الفضل في هذا الابتكار إلى فرانشيكو غريفو، الذي كان يعمل مع مانوتسيوس. ويُعرف هذا النمط حاليا على نطاق واسع باسم "إيتاليك"، نظرا لأنه اخْتُرِعَ في إيطاليا وعلى يد رجل إيطالي.

ويعقب أولبي على ذلك بالقول إن مانوتسيوس أراد "شيئا أكثر رشاقة وخفة وأقل صرامة. إذا أعتقد أنه سيصبح من الأسهل قراءة الكلاسيكيات الإغريقية واليونانية، إذا كُتِبَت بخط ذي طابع أكثر حداثة".

بجانب ذلك، أدرك مانوتسيوس أن الكتابة بهذا النمط من الحروف، ستؤدي إلى شغل مساحة أقل من الصفحة، مقارنة بتلك التي تشغلها الكلمات المطبوعة باستخدام الحروف التقليدية الأكثر سُمكا، التي ابتكرها غوتنبرغ. وقد قاد ذلك - جنبا إلى جنب مع ابتكار الحجم الأصغر من الكتب - إلى جعل المطبوعات في متناول العامة بشكل أوسع نطاقا.

وتوضح بينيديتي: "كانت الكتب التي طُبِعَتْ بهذا الحجم واسْتُخْدِمَ فيها النمط المائل من الحروف المطبوعة أرخص ثمنا وأسهل في الحمل والتعامل معها والنقل كذلك، وقد شجعت على القراءة في أوساط، تختلف عن دوائر الخاصة والصفوة، كما وسعت مجالات الاطلاع أمام القراء".